رهان الإصلاح أم وهم التغيير؟/ محمد الأمين الوافي
لا تكاد تغيب عن مسامعنا في الآونة الأخيرة عبارات تتردّد على الألسن في كل ندوة أو مؤتمر أو منبر إعلامي: “الوحدة الوطنية”، “اللحمة الاجتماعية”، “تعزيز النموذج الديمقراطي”، وكأنها شعارات محفوظة أكثر منها قناعات راسخة أو خطط مدروسة قابلة للتنفيذ. وفي ظل هذا الضجيج السياسي الذي يُسَوِّق للحوار الوطني كأنه خشبة خلاص، يبقى السؤال الجوهري معلّقاً في أذهان المواطنين: هل نحن أمام فرصة إصلاح حقيقي أم مجرّد فصل جديد من مسرحية سياسية باتت مكشوفة؟
إشكالية الوحدة الوطنية: أزمة مصطنعة أم فشل مزمن؟
لا يخفى على أحد أن مفهوم “الوحدة الوطنية” بات يُستَخدم كمظلّة تختبئ تحتها تناقضات النخب السياسية، لا سيّما تلك التي تتقاذفها المصالح الضيّقة والحسابات الفئوية. فما يُسمّى بـ”إشكالية الوحدة الوطنية” في الحقيقة هو نتاج طبيعي لعقود من سوء التدبير، والإقصاء، وغياب العدالة الاجتماعية، وتفشّي الزبونية والمحسوبية، حتى أصبحت الوحدة الوطنية نفسها في مهبّ الريح، رهينة خطابات فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع.
اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية: جدل النخب وعزوف الشارع
قد يختلف البعض في اعتبار اللحمة الاجتماعية جزءاً لا يتجزّأ من الوحدة الوطنية أو مفهوماً قائماً بذاته، لكن هذا الجدل، في جوهره، يظلّ نسبياً لا يصمد أمام واقع التهميش والبطالة والفوارق الاجتماعية الصارخة، التي تنخر جسد المجتمع. فحين تغيب السياسات الاجتماعية الحقيقية، تصبح اللحمة الاجتماعية مجرّد وهم، والوحدة الوطنية مجرّد شعار فارغ.
الديمقراطية المغشوشة: نموذج أم صورة مشوّهة؟
أما الحديث عن “تعزيز النموذج الديمقراطي”، فكثيراً ما يتردّد كأنه إنجاز قائم لا يحتاج إلى مراجعة أو تصويب. والحقيقة أن ما نعيشه ليس سوى ديمقراطية شكلية، محصورة في صناديق اقتراع تفرز نخبة سياسية مترهّلة، استهلكها الفساد والمحاصصة والولاءات الضيّقة، حتى باتت عاجزة عن حمل مشروع وطني جامع.
حزب الإنصاف… عنوان لمرحلة أم قناع لتدوير الأزمة؟
من اللافت أيضاً كيف يُقدَّم “حزب الإنصاف” اليوم كأنه مؤشّر على بداية مرحلة جديدة من “الأخذ والعطاء” بين الفرقاء السياسيين. لكن المتأمّل بعمق يدرك أن ما يحدث ليس سوى إعادة ترتيب داخل المشهد السياسي التقليدي، أشبه بلعبة شطرنج يتبادل فيها اللاعبون الأدوار والقطع، بينما يبقى الشعب خارج رقعة اللعب، يتفرّج على تحرّكات محسوبة، نهايتها محسومة سلفاً.
إصلاح أم إعادة إنتاج الفشل؟
لا يُخفى على أحد أن البلاد أنهكتها، منذ عقود، منظومة حكامة سياسية مترهّلة، اتّسمت بالميوعة وغياب الفاعلية، وساهمت في إنهاك مقدّرات الدولة، زراعةً وصناعةً وخدمات. وما نشهده اليوم من دعوات للحوار الوطني، إذا لم يُبنَ على محور أساس قوامه إرادة إصلاح صادقة، وتحرّر من الأجندات الشخصية والحزبية الضيّقة، فلن يعدو كونه محاولة جديدة لاختطاف المشهد السياسي وتأزيمه.
بصيص أمل… ولكن بشروط
لا ننكر أن الحوار الوطني، إذا تخلّص من عباءة المسرحيات السياسية المكشوفة، وارتكز على أرضية صلبة من الشفافية، والمسؤولية، والاعتراف بالأخطاء، قد يشكّل بصيص أمل. لكنه، في ظلّ استمرار نخبة سياسية مترهّلة، تُتقن فنون الخطاب أكثر ممّا تُتقن فنون الإصلاح، سيبقى مجرّد فاصل كلامي في مسلسل طويل من خيبات الأمل.
الخلاصة: إنّ الإصلاح الحقيقي لا يُولد من رحم الحسابات السياسوية الضيّقة ولا من داخل غرف مغلقة يُوزَّع فيها الحظ السياسي بين النخب. بل ينبثق من إرادة صلبة، وصدق مع الذات، وتحمّل للمسؤولية أمام الشعب والتاريخ. وما لم يُدرك هؤلاء الذين يتصدّرون مشهد الحوار الوطني هذه الحقيقة، سيظلّ الوطن عالقاً بين فصول لعبة شطرنج بائسة، وأحلام شعب يتوق لإصلاح حقيقي طال انتظاره.
بقلم: محمد الأمين الوافي — باريس